مجتمع المعرفة الصانعة للمستقبل
علي أومليل
لقد أصبح مجتمع المعرفة هو حاضر المجتمعات المتقدمة,وهو مستقبلنا لكي لانظل على الهامش.ومجتمع المعرفة – مستقبلنا – مرهون,ضمن شروط اخرى,بما ستكون عليه ثقافتنا,خاصة قيمها الحافزة,ابتداء من القيمة التي تعطي للمعرفة.لكن أية معرفة؟هل هي المعرفة التي تستنتج الماضي باسم إحياء التراث,والحفاظ على الهوية,وتتحصن وراء هذا كله خوفاً من أن تعصف بها رياح التغيير في العالم؟أم هي معرفة تصنع المستقبل,قيمها تربى على الكرامة,وروح المواطنة,والمبادرة,والعمل المنتج,والتعايش الديمقراطي؟لقد أصبحت المعرفة (المتقدمة) منتجة للثروة,وأصبح امتلاك وإنتاج المعلومات مصدراً للقوة.لذلك لابد من إصلاح جذري للتربية والتعليم,وهو من حجر الزاوية في الإصلاح الذي أصبح حاجة لمجتمعاتنا لكي تندمج في عالم اليوم.
إن الإصلاح الشامل أصبح مطلباً ضرورياً ليس لمجرد ان هناك قوى أجنبية تضغط على دولنا للقيام به,بل لأنه حاجة ملحة بسبب الفجوة التي أصبحت تفصلنا عن العالم المتقدم:في أدائنا الاقتصادي,وفي مؤشرات التنمية البشرية,وفي جودة التعليم والبحث العلمي.
إن هناك صراعاً على المعرفة,أو بالتحديد على السلطة المعرفية في مجتمعاتنا,لمن تكون؟فالتراثيون وهم يدافعون عن التراث إنما يدافعون عن سلطتهم المعرفية,يلتمسون بها ولاء العامة ليضغطوا بهم على السلطة,وعلى أنصار الحداثة,بدعوى أنهم المدافعون عن الهوية (أي الدينية),والواقفون في وجه التغريب و"الغزو الثقافي".
رهانهم الأساسي على التعليم,وأنه لابد من أسلمته,ليس بتعظيم نصيب العلوم الدينية في المدارس والجامعات وحسب,وإنما ايضاً بأسلمة باقي العلوم.والقصد هو توسيع القاعدة الاجتماعية التي تسند سلطتهم العلمية,وبالتالي السياسية.
وإذا اضفنا الى ذلك أن الدولة ليست قادرة مع التزايد الديمغرافي ونقص الموارد على إيجاد المدارس في كل مكان,خاصة في الأرياف والبوادي,فإن أعداداً متزايدة للصبيان الذين لم تعد تستوعبهم مدارس الدولة يتجهون الى المدارس الدينية.والمنافذ محدودة ومتدنية أمام "المتخرجين" من هذه الأخيرة,مثل إمامة مسجد.ففي كل خطبة جمعة ينتصب الخطيب لينشر وعياً شقياً بين المصلين,وأن الإسلام أصبح غريباً بينهم,وأن المنكر اشترى في مجتمعهم وهم لايحركون ساكناً,وأن حكامهم تقاعسوا عن نصرة إخوانهم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان,وبهذا يشعلون حرباً اهلية ثقافية,وهم ولو من حيث لايقصدون يساهمون في صناعة العنف باسم الجهاد.
الثقافة إذن أصبحت حاسمة في كسب المستقبل,أو إضاعته,لأنها محصلة المعارف التي تشكل نوعية التفكير,والقيم الحافزة المعارف والقدرات النافعة والاندماج في عالم اليوم أو الوقوف على أبوابه الموصدة دونه.
كثيرون يحذرون من حداثة تؤول الى تغريب,وهو أمر غير ممكن حتى لو أريد لها ذلك,والمثال الواضح هو تركيا الأتاتوركية,وقبله روسيا القيصرية أيام بطرس الكبير.فإرادة التحديث ولو كانت قسرية لايمكن أن تجعل مجتمعا غير غربي يصير غربياً متطابقاً.يبقى أن الحداثة طرقها متعددة,فهي ليست متطابقة بل متعاصرة,كل مجتمع قد يصبح حديثاً حداثياً على طريقته,فهي حداثات متكافئة,ندية,أي متعاصرة.إن حداثتنا – إن نحن أنجحناها – ستكون متميزة عن الغرب,لكنها مكافئة له ومتعاصرة معه,لكنها ستجعلنا أيضاً متميزين عن الأسلاف,وبالأحرى عما يريده بنا التراثيون.